فما حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية؟ قبل الإجابة المباشرة يجب أن نتذكر ما سبق في فصل (المرجئة الفقهاء) من نقل ذم علماء السلف للمرجئة وأنهم هم هؤلاء، وبيان ضلالهم وبدعتهم، وهو ما تنضح به كتب العقيدة الأثرية عامة، فهل يعقل أن يكون هذا كله والخلاف لفظي فقط؟!
والذي تبينته من خلال الدراسة والتتبع أن سبب اللبس الواقع أحياناً هو أن للمسألة جانبين:
* الأول: ما يتعلق بحقيقة الإيمان أو ماهيته التصورية -إن صح التعبير-:
والخلاف فيها حقيقي قطعاً، وله ثمراته الواضحة وأحكامه المترتبة مثل:
1- فـالسلف يقولون: بزيادته ونقصانه، وهؤلاء يقولون بعدمها.
2- إطلاقه على الفاسق أو عدمه، فـالسلف لا يطلقونه على الفاسق إلا مقيداً، وهؤلاء بعكسهم.
3- هل يقع تاماً في القلب مع عدم العمل أم لا؟ عند السلف لا يقع تاماً في القلب مع عدم العمل، وعند هؤلاء يقع.
4- وعند السلف أعمال القلب هي من الإيمان، وعند هؤلاء خشية وتقوى لا تدخل في حقيقته.
5- وعند السلف الإيمان يتنوع باعتبار المخاطبين به...فيجب على كل أحد بحسب حاله وعلمه ما لا يجب على الآخر من الإيمان، وعند هؤلاء لا يتنوع.
6- السلف يقولون: إنه يستثنى فيه باعتبار، وهؤلاء يقولون لا يجوز ذلك لأنه شك.
7- إطلاق نصوص الإيمان على العلم أهو حقيقة أم مجاز؟ فـالسلف يقولون: حقيقة، وهؤلاء يقولون: مجاز.
8- وهؤلاء يقولون: يجوز أن يقول أحد: إن إيماني كإيمان جبريل، والسلف يقولون: لا يجوز بحال.
* الثاني: ما يتعلق بالأحكام والمآلات وأهمها:
1- حكم مرتكب الكبيرة عند الله، وأنه لا يطلق عليه الكفر في الدنيا، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت المشيئة.
2- كون الأعمال مطلوبة، لكن أهي أجزاء من الإيمان أم مجرد شرائع له وثمرات؟ فمن نظر إلى هذا فقط قال: إن الخلاف صوري، أو إن النزاع لفظي.
ولكن مما يردُّ به على أصحاب هذا المذهب في هذا القول نفسه - فضلاً عن القسم الأول:
1- أن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان بدعة لم يعرفها السلف.
2- أن ذلك اتخذ ذريعة لإرجاء الجهمية -كما سبق- بل أدى إلى ظهور الفسق كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ.
3- أنه تكلف وتعسف في فهم الأدلة ورد ظواهرها الصريحة.
4- أن كل شبهة لهم في ذلك منقوضة بحجة قوية .
على أن القضية المهمة في الموضوع والتي ترتب عليها خلافهم في حكم تارك الصلاة -وقولهم: إنه يقتل حداً- هي قضية ترك جنس العمل بالكلية.
فقولهم: إنه مؤمن يجعل الخلاف حقيقياً بلا ريب، بل هم يجعلونه كامل الإيمان على أصلهم المذكور.
فالخلاف فيها لا يقتصر على التسمية والحكم في الدنيا بل في المآل الأخروي أيضاً، هذا ما أخطأ فيه شارح الطحاوية حين قال: ''وقد أجمعوا -أي السلف والحنفية- على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد'' .
واستدل بهذا على أن الخلاف صوري، والواقع أن مجرد الاتفاق على العقوبة لا يجعل الخلاف كذلك.
بل مذهب السلف أن تارك العمل بالكلية كافر؛ إذ انعقد إجماع الصحابة -عليهم رضوان الله- على تكفير تارك الصلاة، ولم يخالف في ذلك أحد حتى ظهرت المرجئة وتأثر بها بعض أتباع الفقهاء الآخرين، دون علم بأن مصدر الشبهة وأساسها هو الإرجاء.
ونعود إلى موضوع انقراض هذا المذهب وتطور الظاهرة، فنقول: إن أحداً في النصف الثاني من القرن الثاني لم يكن يتوقع انقراض هذا المذهب؛ لأنه كان يمثل مذهب الدولة الرسمي -أو شبه الرسمي- ويكاد يسيطر على أصحاب المناصب العلمية والقضائية الرسمية في بغداد والأقاليم.
ولكن لم يلبث أن انقرضت صورته الأولى وتحول إلى مذهب فلسفي كلامي منذ القرن الرابع، ومن أهم أسباب ذلك:
1- المقاومة الشديدة التي بذلها أهل السنة والجماعة في محاربته، وعلى رأسهم الإمام أحمد- الذي كان يدرّس كتاب الإيمان وكتاب الأشربة له في الحلقات العامة، وماثله واقتدى به علماء الحديث والرجال فلم يحقق مذهب الحنفية أي انتصار علمي يذكر.
وبعد التغير الجذري الذي انتهت إليه فتنة الإمام أحمد، والمكانة العليا التي تبوأها لدى الخلفاء والعلماء والعامة، وبروز المذاهب الأخرى -لا سيما الشافعية- تقلصت مكانة هذا المذهب في الفروع، وكان تقلصها في الأصول أكثر.
2- انتشار المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فقد حاول متكلمو هذا المذهب تعويض الهزيمة التي لحقته في المجال العلمي النصي -الكتاب والسنة- بإضفاء الطابع الفلسفي عليه، مستفيدين من هذا الانتشار الذي لم يقابله أهل السنة بما يستحق -لأسباب يطول ذكرها- فمال إليه معظم الطبقة المثقفة، وتخلى معظم الفقهاء الحنفية -وغيرهم- عن التعرض لأمور العقيدة وأحالوها إلى علماء الكلام، وهنا برز من متكلمي الحنفية رجل كان له أعظم الأثر في الانتصار لمذهب جهم وتحويل مذهب الحنفية إليه، وهو أبو منصور الماتريدي
وقد اضطر الحنفية في بعض المراحل إلى الالتصاق بـالأشعرية الذين كانوا أكثر منهم تعمقاً في الكلام، حتى أصبح كلام الباقلاني والرازي من أهم مصادرهم.
وهذا مما جعل الفرقتين تتقاربان كثيراً، حتى إن مسائل الخلاف بينهما حصرت في قضايا معدودة أكثرها فلسفي.